قديم 2016-10-06, 14:37
رقم المشاركة : 1  
الصورة الرمزية iyad05
iyad05
:: سوفت ماسي ::
افتراضي معركة تشيرمانون

معركة تشيرمانون



في الخامس عشر من ربيع الأول من عام 773= 26 أيلول/سبتمبر 1371 وقعت أول مواجهة عسكرية كبيرة بين الدولة العثمانية وبين الصرب، وذلك في معركة تشيرمانون التي نشبت على نهر ماريتسا الواقع عند ملتقى حدود اليونان وبلغاريا، ولذا يقال لهذه المعركة كذلك معركة ماريتسا، وانتهت المعركة بانتصار العثمانيين انتصاراً حاسماً فتح الطريق أمامهم للتقدم عبر وديان نهر ماريتسا والسيطرة عى شمال وغرب شبه جزيرة البلقان.
ووقعت المعركة في عهد السلطان مراد الأول، المولود سنة 726=1326، والذي يعد ثالث سلاطين بني عثمان والذي تولى السلطنة سنة 761=1360، بعد وفاة والده أورخان عن 81 سنة وحكم دام 35 سنة.
وورث السلطان مراد الأول مملكة لم تكن تسيطر إلا على ما يمثل اليوم أواسط تركيا، وكانت عاصمتها بورصة، وكانت أقوى الدول المجاورة لها دولة القَرَمَان التركمانية، ويقال لها كذلك: قره مان، وكانت تخاف من الدولة العثمانية الفتية الصاعدة، وكان ملكها علاء الدين يحرض أمراء الأقاليم الآخرين على قتال العثمانيين، فافتتح مراد عهده بأن قضى على التهديد الذي يواجهه في الشرق من دولة القرمان ودسائسها، وهاجمها واستولى على عاصمتها أنقرة، وأبرم الصلح مع ملكها وزوجه ابنته نيلوفر عربوناً لهذا الصلح، وتركه على مملكته.
وفي السنة التالية شن السلطان مراد الأول حملة عسكرية في تراقيا قادها مربيه السابق لالا شاهين، واللالا تعني مربي السلطان، واستولى في سنة 1361 على مدينة أدريانبول التي سماها أدرنة وجعلها عاصمته، وصارت الدولة العثمانية متاخمة للإمارات المستقلة في صربيا وبلغاريا وألبانيا، وفتحت سيطرة مراد الأول على وادي نهر ماريتسا الطريق أمامه إلى ممالك وسط البلقان، ذلك أن نهر ماريتسا ينبع من جبال ريلا في غربي بلغاريا، ويتجه إلى أدرنة شرقاً، ثم منها يتجه جنوباً حتى يصب في بحر إيجة، ويشكل الحدود الفاصلة بين بلغاريا وبين اليونان، ويجدر بالذكر أن دوق البندقية أرسل سفيرين إلى السلطان مراد ليهنئه بفتح أدرنة.
وإزاء هذا الخطر المحتوم دعا البابا أوربان الخامس إلى حملة صليبية، وتحالف على التصدي للتوسع العثماني ملوك المجر وصربيا والبوسنة ورومانيا، فأعدوا جيشاً كبيراً في سنة 1364 اقترب حتى صار بمرأى العين من أدرنة، ولكن واليها حاجي بك بادرهم بالهجوم، وانتهت حملتهم بهزيمة منكرة، واضطر حكام بلغاريا أن يقبلوا بالتبعية للسلطان العثماني، ، وفي سنة 1365 وقعت جمهورية راجوزا معاهدة سلام وتجارة مع السلطان مراد الخامس، كانت أول معاهدة بين العثمانيين وبين دولة مسيحية، وراجوزا هي اليوم ميناء دوبروفنيك في كرواتيا، وكانت مركزاً تجارياً هاماً في البحر الأدرياتكي للبندقية والكرواتيين.
وهكذا أصبحت الدولة البيزنطية في وضع لا تحسد عليه، ففضلاً عن كونها أصبحت محصورة في رقعة صغيرة من الأرض، فقد صارت عاصمتها العريقة القسطنطينية محاطة بالترك من جهة الغرب الأوروبي، وفصلت عن باقي الأمارات المسيحية الصغيرة التي كانت تتقاسم شبه جزيرة البلقان.
وفي سنة 1365 خاطر الإمبراطور البيزنطي يوحنا بالايولوقس الخامس، فترك القسطنطينية في عهدة ابنه أندرونيقوس، وذهب إلى الملك الهنغاري لويس الكبير طالباً منه العون في مواجهة العثمانيين، ولكن لويس لم يكن يثق بالإمبراطور فرده خائباً، وفي طريق عودته إلى بلده قام البلغار بحجز الإمبراطور طالبين فدية لكي يطلقوا سراحه، ولم يظهر ابنه أية حماسة ليفك أسر أبيه، ولكن ابن خالته أماديوس السادس كونت سافوي شن هجوماً على البلغار وأجبرهم على إطلاق الإمبراطور.
ونصح أماديوس الإمبراطور أن يذهب إلى روما ويطلب العون من البابا أوربان الخامس، فأخذ بنصيحته وأمضى في روما 5 شهور دون نتيجة ملموسة، وحيث كانت له تجربة مماثلة قبل 15 سنة لقي فيها تجاوباً فاتراً لكون كنيسته الأرثوذكسية لا تتبع البابا في روما، عرض الإمبراطور هذه المرة أن يتحول إلى الكاثوليكية مقابل الدعم البابوي، وكان طريق عودته إلى القسطنطينية يمر بميناء البندقية، فاحتجزته حكومتها لكونه مديناً لها بمبالغ تخلَّف عن سدادها، فتنازل لهم عن جزيرة في بحر إيجة مقابل الدين وبعض المال الذي كان بأمس الحاجة إليه، وجرى كل هذا وابنه في القسطنطينية لا يكترث بما يجري لوالده، ولم يعد يوحنا الخامس إلى عاصمته إلا بعد قرابة 5 سنوات، وعاد إليها خائب الأمل محطم النفس.
وأثناء غياب الإمبراطور تحرك أماديوس السادس كونت سافوي على رأس حملة صليبية، وجاء من فرنسا ومعه صهر الإمبراطور حاكم جزيرة ليسبوس في بحر إيجة، والتي كانت تابعة لجمهورية جنوا في إيطاليا، واحتلت الحملة مدينة جاليبولي على الضفة الغربية الأوروبية للدردنيل، ولكن السلطان مراد الأول استعادها منهم في السنة القادمة، وجعلها قاعدة انطلاق لغزواته في البلقان.
وكانت صربيا يحكمها منذ سنة 768=1366 ملكان هما الملك فوكاشين مرنيافجفيتش والملك ستيفان أُورْوش، وأعد فوكاشين في آخر سنة 772=1371 جيشاً من 70.000 جندي وسار به نحو شقودرة، وهي اليوم في شمال غربي ألبانيا، ولكنه لما اقترب منها جاءته الأخبار أن هناك جيشاً عثمانيا قادماً من الشرق، فاتجه شرقاً لقتاله، وكان في مخططه أن ينتهز فرصة غياب مراد الأول الذي كان يحاصر مدينة بيجا قرب بورصة، فيتابع مسيره إلى أدرنة ليحاصرها ويستولي عليها، وفي ليلة 15 ربيع الأول سنة 773 خيم بجيشه في مكان يدعى تشيرمانون على ضفاف نهر ماريتسا، ويعرف اليوم باسم أورمِنيو في اليونان.
وكان الجيش العثماني بقيادة اللالا شاهين باشا، الذي كان نائب السلطان في ولاية الروم، ويعرف باسم بيلر بيّ روم إيلي، وكان مع لالا شاهين القائد العثماني ذي الأصل اليوناني الغازي إيفرينوس، وتتباين الأقوال في تقدير عدد الجيش العثماني حتى تصل به إلى 10.000 جندي، ولكنه على الأصح 800 جندي، وإزاء التفوق العددي الكبير للجيش الصربي قرر القائدان استغلال الليل للقيام بهجوم مباغت يقوم به فرسان العثمانيين ويليهم في الهجوم المشاة، وكان خيالة العثمانيين مشهورين بمهارتهم في الهجمات الصاعقة المعتمدة على الكر والفر، فقسموا فرسانهم إلى عدة أقسام ليهاجموا مخيمات الجيش من كل الجهات، ونجحت خطتهم في مفاجأة الجيش الصرب النائم مفاجأة تامة، فدبت الفوضى في صفوف الجيش الصربي وبادر جنوده بالفرار، وقتل في المعركة الملك فوكاشين وأخوه وولي عهده يوحنا، وتتالت هجمات الأتراك على الجيش الصربي المهزوم، والذي هرب أفراده من سيوف الأتراك ليموتوا غرقاً في نهر ماريتسا، وكانت خسائر الصرب جسيمة جداً حتى إن مكان المعركة صار يعرف باسم: هلاك الصرب.
وردعت نتائج المعركة في تشيرمانون بلغاريا عن التفكير في حرب العثمانيين، ورضي القيصر البلغاري إيفان شيشمان أن يكون تحت السيادة العثمانية، وزوج أخته المدعوة ثَمار كيرا من السلطان مراد في سنة 1373، وهكذا أصبح مراد الأول آمنا من أن يأتيه تهديد من الشرق وأصبح بمقدوره حشد أكبر من قواته إزاء الصرب في الجبهة الغربية.
ومن ناحية أخرى قضت المعركة على مملكة صربيا المستقلة الموحدة، وتقاسم ما بقي منها أمراء الصرب الذين لم يستطيعوا أو لم يريدوا أن يتفقوا على خليفة للملك فوكاشين بعد أن مات الملك أُورْوش بعد 4 شهور من معركة ماريتسا، وشهدت صربيا تنافساً على المُلك بين ماركو كراليفيتش ابن الملك القتيل فوكاشين وبين الأمير لازار ريبليانوفيتش أمير منطقة مورافيا في شمال صربيا، ولجأ ماركو للسلطان مراد لينال عرش والده، وقبل بالسيادة العثمانية على منطقته، وتضمن ذلك كالمعتاد تعهده بتقديم عدد من الجنود ليقاتلوا في صفوف جيش السلطان مراد.
ومن ناحية أخرى فتحت المعركة الطريق أمام العثمانيين للاتجاه جنوباً والاستيلاء على شمال وشرق اليونان لتصل حدود دولتهم إلى بحر إيجة، واتجهوا كذلك شمالاً للسيطرة على مقدونيا التي احتلوها في نفس السنة، وتوالى سقوط المدن والمناطق في البلقان، وسقطت صوفيا عاصمة بلغاريا في سنة 1385، وبحلول سنة 1388 كان العثمانيون قد احتلوا كل المناطق الواقعة جنوب نهر الدانوب باستثناء البوسنة وألبانيا واليونان وجزء من رومانيا وقلعة بلغراد التي بقيت عصيّة عليهم، ولم يعد بمقدور أحد أن يتصدى لهم سوى الهنغار في الشمال.
ومع التوسع في البلقان حدث تطور آخر في القسطنطينية في سنة 1373 أدى بالإمبراطور البيزنطي يوحنا بالايولوقس الخامس للقبول بالتبعية للدولة العثمانية، ذلك أنه بعد عودته من رحلته، عاقب ابنه الكبير أندرونيقوس على تخليه عنه أثناء السفر، فحرمه من ولاية العهد وأعطاها لابنه الأصغر مانويل، وفي نفس الوقت تمرد صاووجي ابن السلطان مراد على والده، متفقاً مع المتمرد البيزنطي ولسبب متشابه، ذلك أن السلطان مراد حرمه من ولاية العهد ومنحها لابنه بايزيد.
وأرسل السلطان مراد جيشاً قضى على تمرد الأميرين، وفقأ أعينهما بعد القبض عليهما، وبذلك صارت له دالة على الإمبراطور، ولكن الأمير أندرونيقوس ما لبث أن عاد فأطاح بوالده في سنة 1376 وسجنه مع أخيه مانويل، وبسبب مساعدة السلطان مراد له، تنازل له عن مدينة جاليبولي، ولكن والده استطاع أن يستعيد عرشه في سنة 1379 بمساعدة عثمانية كذلك، وأصبح من الناحية العملية تابعاً للسلطان العثماني.
وفي سنة 1382 قام الأمير مانويل بالتمرد على والده بحجة أنه رضي بالسيادة العثمانية، وهرب مانويل إلى سالونيك حيث أنشأ مملكة مستقلة هاجم منها العثمانيين، فأرسل السلطان مراد وزيره خير الدين قره خليل باشا في سنة 1383 فحاصر سالونيك مدة أربع سنوات حتى استسلم مانويل في سنة 1387 للسلطان مراد الذي أرسله ليعيش في البلاط العثماني في بورصة.
وإلى جانب توسعه في البلقان، واصل السلطان مراد توسعة مملكته في الأناضول، واستعمل في سبيل ذلك وسائل المصاهرة والإغراءات المادية والتهديد العسكري والحرب، واستطاع أن يمد سلطانه إلى توقاد، ثم تخلى الأمير حميد أوغلو أمير كرميان مقابل مبلغ من المال عن نصف أراضي إمارته، وزوج السلطان مراد ابنه بايزيد بابنة الأمير حميد، الذي قدم للسلطان مراد مدينة كوتاهية هدية في زواج ابنته، وبذلك دق مراد الأول إسفيناً بين كرميان وبين إمارة القرمان التي أصبح يحاصرها من الشمال ومن الغرب، وما لبث حكام هذه الإمارات أن اعترفوا بالسيادة العثمانية باستثناء القرمان.
وكان إمارة القرمان تحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطنة المملوكية في مصر، وتدعي أنها تحت سيادتها، ولكن مراد الأول سحب البساط من تحتها عندما عقد في سنة 1386 معاهدة صداقة مع السلطان المملوكي، وارتكب أمير القرمان وصهر مراد الأول خطأً قاتلاً في نفس السنة عندما احتل بلدة كان مراد الأول قد حصل عليها من أمير كرميان، وكانت ذريعته في احتلاها أنها تابعة له في الأصل.
ولم يتردد السلطان مراد في انتهاز الفرصة التي قدمها له علاء الدين بك، فسار على رأس جيش تعداده 70.000 جندي، ولما التقى الجيشان، قام ابنه وولي عهده بايزيد بتحريك قواته بسرعة خاطفة أوقعت بقوات القرمان التي تشتت على الفور، ومن هنا اكتسب بايزيد لقب: يلدرِم، أي البرق. وجاءت ابنة السلطان ترجوه العفو عن زوجها فعفا عنه، فجاء وقبل يد السلطان، وكان لذلك مغزاه الكبير لدى حكام الإمارات في الأناضول التي أصبح السلطان مراد سيده دون منازع، وأصبح كذلك يسيطر على الطريق التجاري الهام الذي يصل الأناضول بالبحر المتوسط.
وفي سنة 1388 وقعت معركة في بلوشنيك قرب نيش في صربيا، وأوقعت فيها القوات الصربية والبوسنية والبلغارية هزيمة قوية بالجيش العثماني الذي كان يقوده اللالا شاهين، وخسر في المعركة نصف جيشه؛ 15.000 جندي، وأنعشت هذه الهزيمة آمال البلقانيين في إمكان انتصارهم على العثمانيين، وخيل لهم بعد هذه الهزيمة أن ميزان القوى قد اعتدل أو رجح إلى جانبهم.
وبعد الهزيمة العثمانية ارتد القيصر البلغاري إيفان شيشمان عن قبوله السيادة العثمانية، ونقض اتفاقه الذي يُلزِمُه أن يقدم للسلطان ما يطلبه منه من جنود وفقاً لتقاليد تلك الحقبة، وتحصن شيشمان في تارنوفو فأرسل السلطان جيشاً يقوده الوزير علي باشا إلى شمال جبال البلقان، واستولى الجيش على المدن واحدة تلو الأخرى، فغادر شيشمان تارنوفو إلى نيقوبول، ولكن الجيش العثماني أدركه وحصره فيها، وجرت مفاوضات بين الطرفين توصلا فيها إلى أن يعفو السلطان مراد عن شيشمان ويتركه في منصبه، ولكن بشروط أقسى كثير من السابق، فإلى جانب إلزامه بتجديد قبوله للسيادة العثمانية، ألزمه السلطان بأن يتنازل عن مدينة سليسترا التي كانت أكبر مدينة بلغارية على نهر الدانوب.
ولكن شيشمان تلكأ في الموافقة على تلك الشروط، فقد شجعه الأمراء من جيرانه على رفض السيادة العثمانية، ووعدوه بالمساعدة والمدد، فما كان من الجيش العثماني إلا أن باشر الحصار بجدية، ولما طلب شيشمان من جيرانه أن يساعدوه، عاد فارغ اليدين، فعاد للتفاوض مع السلطان مراد الذي ما عاد يثق بهذا المتقلب، ولذا أضاف إلى الشروط شرطاً يتضمن أن تتمركز القوات العثمانية في المدن البلغارية الهامة.
وبعد انتصارهم في بلوشنيك قام الصرب والبوسنيون بالدعوة لحملة صليبية جديدة، وجمعوا جيشاً قاده الأمير الزعيم الصربي لازار ريبليانوفيتش، يساعده تورتكو ملك البوسنة، وشارك في الحملة أمراء هنغاريا وبولندا ورومانيا وبلغاريا، والتقى هذا الجيش مع الجيش العثماني الذي قاده مراد الأول ومعه ابنه بايزيد، وجرت المعركة في عند سهول كوسوفو في 3 رجب سنة 791 = 1389، وكاد النصر أن يكون حليف الصرب عندما دب الاضطراب في الجيش العثماني بسبب مقتل السلطان مراد.
فقد ادعى أمير صربي يدعى ميلوس أوبيليج أنه انشق عن الجيش الصربي ويريد مقابلة السلطان مراد ليعرض عليه أمراً لا يطلع عليه سواها، فلما وصل إلى السلطان طعنه بخنجر كان يخفيه، ونال السلطان مراد الشهادة التي تمناها وكان عمره 64 سنة، وطويت بذلك صفحة سلطنته التي دامت 27 سنة، كان فيها قائداً متميزاً في شجاعته ودقة تخطيطه؛ خاض 37 معركة لم يهزم في أي منها، وتضاعفت في عهده أراضي السلطنة 5 أضعاف، ودفن السلطان مراد في مكان استشهاده ثم نقل جثمانه فيما بعد إلى بورصة.
وسارع الأمير بايزيد على الفور فضبط الأمور في الجانب التركي، واستمرت المعركة في مسارها، ونجح العثمانيون في تطويق الجيش الصربي وإيقاع هزيمة كارثية به، وقُتِل أمير الصرب لازار بعد أسره، ولا تزال معركة كوسوفو حية في ذاكرة الصرب وتقاليدهم، وهم يعتبرونها انتصاراً لهم لا شك فيه، ورفعت الكنيسة الأرثوذكسية الأمير لازار إلى مرتبة القديس الشهيد، ولا يزال شعراء الصرب ومغنوهم يحيون ذكرى المعركة بعاطفة حزينة ومبكاة مأساوية، ويعيدون استعراض ما لابسها من أحداث صحيحة وتخيلية وأبطال حقيقيين أو أسطوريين.
قال المؤرخ اليوناني لاونيكوس شالكوكوندايلس، المتوفى حوالي سنة 1490، في تاريخه الكبير حول الدولة البيزنطية عن السلطان مراد الأول: كان جسوراً، رابط الجأش، فعالاً شديداً ونشيطاً في شيخوخته كما كان في شبابه، منظماً لا يهمل أي تدبير، ولا يباشر عملاً ما لم يدرسه من كافة الوجوه، يعامل الدول والأفراد الذين يطيعونه ويسيرون في ركابه بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم، ولكنه قاس على من يظهر له العداء، صادق الوعد حتى لو انقلبت الأمور عليه، حصل على ثقة الجميع من أعداء أو أصدقاء.
وتذكر الموسوعة البريطانية أن السلطان مراد الأول اتبع سياسة التعايش في بسط سلطان الدولة العثمانية في البلقان، فقد كان يُقِرُّ الأمراء المحليين في مناصبهم وعلى إقطاعاتهم، ما داموا يعترفون بسلطانه، ويدفعون له الجزية السنوية، ويقدمون له العساكر التي يطلبها عند الحاجة، وبفضل هذه السياسة تجنب العثمانيون في الغالب أن يقوم أهالي ونبلاء البلاد التي فتحوها بمحاربتهم، فقد كان النبلاء والعامة مطمئنين إلى أن أرواحهم وأملاكهم وأديانهم وأعرافهم وتقاليدهم ومناصبهم ستبقى على حالها إذا هم رضوا بالحكم العثماني ولم يحاربوه، واشتُهِر السلطان مراد الأول بالمحافظة على عهوده ومواثيقه، وبالعفو عند المقدرة.
كذلك تذكر الموسوعة أن السلطان مراد ترك حكم المساحات الشاسعة التي استولى عليها لأمرائها المحليين ووفقاً لأعراف أهلها، وبذلك لم تكن هناك حاجة لأن تنشئ السلطنة العثمانية نظام حكم جديد من قبلها في هذه المناطق المختلفة التقاليد والأعراق، وما كان ذلك سيتطلبه من إعداد ونفقات وإداريين مؤهلين، وبالمحافظة ما أمكن على الوضع السائد قبل الفتح العثماني لم يكن لدى الأهالي حافز قوي للعصيان والثورة، وبذلك لم تحتاج السلطنة إلى أن تبث أعداداً كبيرة من جنودها للحفظ على الأمن والسلام في هذه المناطق، وقد سار على هذا النهج أغلب السلاطين الذين جاءوا بعد السلطان مراد.
ورغم ذلك لا يمكننا القول أن الفتح العثماني لشبه جزيرة البلقان خلا من العقبات والمشاكل، فقد كان الزعماء السلافيون على استعداد للتعاون مع العثمانيين إذا كانوا سيعينوهم ضد منافسيهم، وقد مكنهم هذا من المحافظة على درجة من الاستقلال مع إقرارهم نوعاً ما بالتبعية العثمانية، وتراوحت درجتا الاستقلال والقبول بالتبعية وفقاً لظروف الدولة العثمانية والزعماء السلافيين، وبقيت لملوك الصرب دولة صغيرة في راسكا، حكموها من بلغراد ثم من سميدريفو، ولم تتوقف المقاومة الصربية للعثمانيين إلا بعد سقوط سميدريفو في سنة 1459.
ولا بد أن نعرج هنا على ذكر جنود النظام الإنكشاري الذي أسسه السلطان مراد، فقد كان المتعارف عليه في كل الدول شرقيها وغربيها أن يقوم النبلاء والأمراء بتقديم عدد معين من الجنود إلى جيش السلطان عند حشده لحرب أو معركة، حيث كان السلطان يقطع كل أمير أرضاً زراعية معينة ليعيش من دخلها، وكان الأمير بدوره يفرض مبلغاً معيناً على من يزرعون تلك الأرض، وكانت هذه الإقطاعات تصنف وفقاً لدخلها المحدد في سجلات الدولة، فمثلاً كان الإقطاع الذي لا يتجاوز دخله 20.000 قرش يسمى تيمار، وما زاد على ذلك المبلغ يسمى زعامة، وكان على الإقطاعي أن يسكن عدداً من الجنود في أرضه وقت السلم، فإذا أعلن النفير أو الحرب عليه أن يجند عدداً يماثلهم، ويجهز الجميع على نفقته للحرب، وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب وإذا انقرض الذكور تسترجعها الحكومة لتقطعها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط.
وسارت الدولة العثمانية على هذا النظام، ولكن السلطان مراد أدخل عليه تعديلات من أهمها تأسيس القوات الإنكشارية، والتي اشتق اسمها من كلمة يني جري التركية والتي تعني الجيش الجديد، وتقوم على فكرة إنشاء قوات عسكرية متفرغة متأهبة في السلم والحرب، تكون تابعة للسلطان مباشرة وتحت تصرفه في كل وقت، فلا يكون مديناً للأمراء بما يقدمونه له من جنود وتجهيزات، ويصبح مستقلاً عنهم تمام الاستقلال فلا يجرؤون بعد على التدخل في شؤون الدولة.
وفي بداية الأمر تأسست القوات الإنكشارية في سنوات 770=1370 لتكون الحرس الشخصي للسلطان، وجرى تجنيد أفرادها من أسرى الحرب، ثم جرى توسيعها لتصبح أول جيش محترف دائم عرفته أوروبا، وفي سنوات 780=1380 فرض السلطان مراد على الرعايا غير المسلمين، وأغلبهم من البلقان، أن يقدموا عدداً معيناً من أبنائهم ليكونوا جنوداً في عسكر السلطان، وكان هؤلاء الفتيان الصغار ينشَّؤون مسلمين ويدخلون في مدارس عسكرية لتربيتهم وتدريبهم على منهج عسكري صارم عماده الطاعة والإقدام، ولذا فإن ولاءهم سيكون فقط لولي نعمتهم السلطان دام ظله.
ومن الإصلاحات العسكرية في زمن السلطان مراد ما قام به الوزير تيمور طاش باشا فقد نظم فرق الخيالة العثمانيين المسماة سيباه على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم حمراء اللون، وهي أساس العلم العثماني فالتركي الذي لا يزال حتى الآن.
إضافة رد
 

مواقع النشر (المفضلة)


معركة تشيرمانون


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

أدوات الموضوع

الانتقال السريع


الساعة الآن 13:15
المواضيع و التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات سوفت الفضائية
ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ( ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر )
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2023, vBulletin Solutions, Inc