قديم 2016-04-16, 17:33
رقم المشاركة : 1  
الصورة الرمزية iyad05
iyad05
:: سوفت ماسي ::
افتراضي سيرَةُ مُخْبِر ... ـ شعر : عبد اللطيف علوي

سيرَةُ مُخْبِر ... ـ شعر : عبد اللطيف علوي

كانَ يَعرِفُنِي ..
منذُ عشرينَ عامًا،
ويَألَفُنِي مثلَ مِعطَفهِ الكَشْمِرِيِّ القديمِ
و قهوتِهِ المُرَّةِ البارِدَهْ .. !
كان يعرفُنِي من بعيدٍ،.
بدونِ التباسٍ ولا رِيبَةٍ .. !
رغم كلِّ الّذي كانَ من غَبَشِ الصُّبحِ،
مِنْ بينِ كُلّ الّذينَ يَجُرّونَ أرواحَهُم كلَّ يومٍ
إلى المَسْلَخِ البَلَدِيِّ،
يرانِي بِعيْنَيْ قفاهُ ولوْ في الظّلامِ الثّقيلِ،
يُمَيِّزُ ظلّي وَ وَقْعَ خُطايَ ..

على بُعدِ مِيلِ .. !
و لَوْ سِرْتُ مُسْتَخْفِيًا حافِيًا، فوق رملٍ بَلِيلِ ..
و يَعرفُني ..كان يَعرِفُني..
حين أحتالُ دومًا عليهِ بأيِّ طريقَهْ!
أُغيِّرُ شَكْلِي تمامًا ..
أهزُّ كَفزّاعةٍ كتِفَيَّ وأكسرُ كلَّ الملامِحِ في سِحْنتِي،
أَنْحني وأحدِّبُ ظهري قليلاً، وأَعْرُجُ ..
أَرْطِنُ، أَلْكَنُ، أَلْثَغُ ...
ولكنّه كان يعرِفُني دائِمًا كيفَما صرْتُ ..
يعرفُ أوصافَ كلِّ الحبيباتِ والأصدقاءِ،
وأَسماءَهُمْ وعناوينَهُمْ ..
و يَرى في مُفَكِّرَتِي ما يَراهُ الحُواةُ بِتَنجِيمةٍ أو عِرافَهْ .. !
فيحفَظُ بيتًا أو اثنينِ ممّا أُسَوِّدُ إنْ جاعَ قلبي
و يمْحُو خلافَهْ !..
لعشرين عامًا مضتْ ظلَّ يَتْبعُنِي ...
في الطّريقِ إلى قبرِ أُمّي، أو المعهدِ الثّانويِّ ..
إلى خُلْوةِ العاشِقينَ،
وبعضِ الشّؤونِ الصّغيرَةِ ..
يتبعُني تحتَ جنح الظّلامِ ..
وقد يتَحرَّشُ بي في المَنامِ ..
وقدْ أتَعثَّرُ في ظلّهِ المُتَسَرْبِلِ دومًا أمامِي .. !
وَقدْ يخْتَفِي فجأةً في الزّحامِ
ليومٍ أَوِ اثنينِ،
ثمَّ يُفاجِئُني بابتسامَتِهِ الرّخْوةِ الْبَارِدَهْ !
كنتُ ألمَحُهُ بينَ حينٍ وحينِ ..
يُداعِبُ هرِّي الكسولَ كطفلٍ حزينِ ..
يشُدُّ على كَفِّ أُمِّي ويحمل عنها سلالَ الخُضارِ
يُدَرْدِشُ طول الطّريقِ ويَسْأَلُها ..
عن مخابِئَ مُمكِنةٍ للسِّلاحِ، أو الكُتبِ المُسْتَرابَةِ ..
أو أيِّ شيءٍ .. فقطْ أيِّ شيءٍ .. !
و لَوْ شِبْهِ مَعلومةٍ شارِدَهْ ..
ذلك الواضحُ الفاضِحُ الغامضُ المُتَحوِّلُ ..
يعرفُ بالضّبْطِ كم ينبغي لي من الوَقتِ،
كي أَتَخلَّصَ من نَبْحِ ذاكِرتِي،
قبلَ أن أرتَخي في الفراشِ تمامًا كَأُرْجُوحةٍ ... وأَنامْ
وكم ينبغي لي من الوقتِ كي أَسْتعِدَّ وأَحلِقَ ذَقْنِي ..
إذا ما صَحوتُ ..
وحالَفَنِي الحظُّ أنّي صحوتُ ..
على بعْضِ ما قَدْ يُرَامْ .. !
ويَعرف كم مرَّةً أتيقَّظُ في اللّيلِ مُرْتَعِبًا خائِفًا
أتَحسّسُ رأسِي،
وحبلَ العدالةِ في عُنُقِي ..
فينامُ قريرًا على صدرِ زوجَتِهِ في سَلامْ .. !
و يعرفُ أشياءَ أُخرى ..حميميَّةً للنُّخاعِ ..
فكيفَ إِذَنْ .. لمْ يَكُنْ يعرِفُ ..
أنّني كنتُ في كلِّ يومٍ أَموتُ، ليحيَا بَنوهُ
و أَعْصِرُ من جَمْرِ أيّامِيَ السُّودِ ماءً ..
لِكيْ يَشْرَبُوهُ!
و أَنّي فقطْ ..
كانَ همِّي فقطْ ....
أَنْ أُصرِّفَ فعل الكرامةِ .. كيْ يَحْفَظُوهُ ..
لِعِشرِينَ عامًا .. مشى مُغْمَضَ القلبِ خلفِي،
لِعشرينَ عامْ ..
و ها أنّني اليومَ أمشي وراءَ جنازَتِهِ ..
صامِتًا، شِبْهَ مُعتذِرٍ عنْ حضُورِي وشُحِّ الدُّموعِ ..
وقفتُ على قبرِهِ ذاهِلاً،
أستعيدُ الخُطى .. خُطوةً خُطوَةً!
ورأيتُهُ من بينِ كلِّ المُعزّينَ يبحثُ عنّي طويلاً ..
ولكنّه لا يرانِي .. وما عادَ يَعْرِفُنِي ..
ربّما كان يُمكِنُ أنْ نَشْرَبَ القَهوةَ المُرَّةَ ...
ذات يومٍ معًا .. ربّمَا ...
غيرَ أنّا قَطَعْنَا المسافةَ ظَهْرًا لِظَهْرٍ،
بلاَ لَفْتَةٍ أو كَلاَمْ ..!
عدوَّيْنِ كنّا حَميمَينِ ، نَمْشِي على الرَّغْمِ منّا معا
وَسْطَ هذا الزِّحامْ!
وها نحنُ نفترقُ اليومَ أيضًا على الرّغمِ منّا ..
بلا عَتَبٍ أوْ مَلامْ!
مَدَدتُ إليهِ يدي كي أصافِحَهُ، ثمَّ أَمْضِي ..
ولكنّها لمْ تَعُدْ!
وَرَأيتُ المُعزِّينَ، نفسَ المُعزّينَ يلتَفتُونَ إليَّ ..
وَ يَمْضُونَ دون اهْتِمامْ .. !
إضافة رد
 

مواقع النشر (المفضلة)


سيرَةُ مُخْبِر ... ـ شعر : عبد اللطيف علوي


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

أدوات الموضوع

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:56
المواضيع و التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات سوفت الفضائية
ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ( ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر )
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2023, vBulletin Solutions, Inc