قديم 2016-09-04, 16:04
رقم المشاركة : 1  
الصورة الرمزية iyad05
iyad05
:: سوفت ماسي ::
افتراضي صفحات مشرقة من التاريخ العربي: أصالة الطب النفسي

صفحات مشرقة من التاريخ العربي: أصالة الطب النفسي



الدراسة الجيدة والمتأنية في المخطوطات العربية الإسلامية تكشف عن كنوز وذخائر وعلوم لم تكتشف. ومن أهمها علم الطب النفسي التطبيقي الذي مازال فاعلاً حتى اليوم.
من الثابت أن منظومة الطب العربي الإسلامي في عصر ازدهارها قد تشكلت عبر مراحل مختلفة, بدءًا بترجمة علوم الأمم الأخرى - وخاصة اليونان - مرورًا بالدراسة والاستيعاب والتنقيح والنقد, وانتهاءً بالابتكار والإبداع.
هذا فيما يتعلق بالطب الجسمي, أما فيما يخص الطب النفسي فيكاد يكون للعرب والمسلمين السبق في هذا الميدان, حيث استند العلاج النفسي خلال عصور التاريخ قبلهم إلى السحر ورد المرض النفسي إلى قوى شريرة في استخدام الرقي والتمائم والتعاويذ.
الرازي وأمراض النفس
هنا نجد الرازي كأعظم أطباء العرب والمسلمين وأكبر أطباء العصور الوسطى قاطبة, بل وحجة الطب في العالم منذ زمانه وحتى العصور الحديثة, يفكر كأول طبيب في معالجة المرضي الذين لا أمل في شفائهم, فكان بذلك رائدًا في هذا المجال. لقد رأى الرازي أن الواجب يحتم على الطبيب ألا يترك هؤلاء المرضى, وأن عليه أن يسعى دومًا إلى بث روح الأمل في نفس المريض, ويوهمه أبدًا بالصحة ويرجيه بها, وإن كان غير واثق بذلك, فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس.
ومن أشهر الأمراض التي اعتبرها سابقوه مستحيلة البرء, وعالجها الرازي, الأمراض النفسية والعقلية والعصبية, وكما فعل الرازي بالنسبة للأمراض العضوية من تقديم وصف مفصل للمرض يشرح فيه علاماته, وأعراضه, ثم يصف له العلاج المناسب, فإنه قد فعل الشيء نفسه بالنسبة لهذه الأمراض. ومن الأمثلة على ذلك قوله: (الغم الشديد الدائم الذي لا يعرف له سبب, وخبث النفس, وسوء الرجاء ينذر بالماليخوليا) (المنصوري 211) ثم نراه يقدم وصفًا بليغًا لهذا المرض فيقول: (ومن العلامات الدالة على ابتداء المالنخوليا: حيث التفرد والتخلي عن الناس على غير وجه حاجة معروفة أو علة كما يعرض للأصحاء لحبهم البحث والستر للأمر الذي يجب ستره. وينبغي أن يبادر بعلاجه لأنه في ابتدائه أسهل ما يكون, وأعسر ما يكون إذا استحكم. وأول ما يستدل على وقوع الإنسان في المالنخوليا, هو أن يسرع إلى الغضب والحزن والفزع بأكثر من العادة ويحب التفرد والتخلي) (الحاوي 1/75) .
وينصح الرازي أصحاب هذا المرض بالسفر والانتقال إلى بلد آخر مغاير لبلدهم في المناخ, فيقول: (إذا أزمن بالمريض المرض, وطال فانقله من بلده إلى بلد مضاد المزاج لمزاج علته, فإن الهواء الدوام لقاؤه يكون علاجًا تامًا, وقد برأ خلق كثير من المالنخوليا بطول السفر) (المرشد 116).

وعن أعراض مرض الصرع يقول الرازي: (الكابوس والدوار إذا داما وقويا, ينذران بالصرع, فلذلك ينبغي ألا يتغافل عنهما إذا حدثا, وبودر بعلاجهما على ما ذكرنا في موضعه) (المنصوري 211). ومن أمثلة معالجات الرازي في هذا الشأن ما يلي:
استُدعي الرازي لعلاج أمير بخارى الذي كان يشكو من آلام حادة في المفاصل لدرجة أنه كان لا يستطيع الوقوف, وعالجه الرازي بكل ما لديه من أدوية, ولكن دون جدوى وأخيرًا استقر الرازي على العلاج النفسي, فقال للأمير إنه سوف يجرب علاجًا جديدًا غدًا, ولكن على شرط أن يضع الأمير أسرع جوادين لديه تحت تصرفه, فأجابه الأمير. وفي اليوم التالي ربط الرازي الجوادين خارج حمام بظاهر المدينة, ثم دخل هو والأمير غرفة الحمام الساخنة, وأخذ يصب عليه الماء الساخن, وجرعه الدواء ثم خرج ولبس ملابسه وعاد شاهرًا سكينًا في وجه الأمير, مهددًا إياه بالقتل, فخاف الأمير, وغضب عضبًا شديدًا, وسرعان ما نهض واقفًا على قدميه, بعد أن كان لا يستطيع, وهنا فر الرازي من الحمام إلى حيث ينتظر خادم الأمير مع الجوادين, فركبا وانطلقا بسرعة. وعندما وصل الرازي إلى بلده, أرسل إلى الأمير رسالة شارحًا فيها ما حدث من أنه لما تعسر علاجه بما أوحاه إليه ضميره, وخشي من طول مدة المرض, لجأ إلى العلاج النفساني. واختتم الرسالة بأنه ليس من اللياقة أن يقابل الأمير بعد ذلك, فلما عزم الرازي على عدم الرجوع, أرسل إليه الأمير مائتي حمل من الحنطة, وحلة نفيسة, وعبدا وجارية, وجوادا مُطهما, وأجرى عليه ألفي دينار سنويًا) (الحاوي 3/63( .
وخلاصة القول إن الرازي كان سباقًا في الاهتمام بمعالجة أصحاب الأمراض النفسية, فسجل بذلك للمسلمين والعرب أروع الصفحات في تاريخ الإنسانية, فقد كان اليونان يأمرون أهل المريض الذي يعاني ضعفًا في قواه العقلية بحبسه في منزلهم, حتى يمنع ضرره عن المجتمع. وكانت أوربا في العصور الوسطى تعامل أصحاب هذه العلل أسوأ معاملة يعامل بها إنسان (فكان هؤلاء البشر المعذبون يوضعون في سجون مظلمة, وقد قيدت أيديهم وأرجلهم, أو يعزلون عن العالم وعن أهلهم في المستشفى السجن) أو (البيت العجيب) أو (برج المجانين) أو (القفص العجيب) كما كانوا يسمونها آنذاك, ويسلم أمرهم إلى رجال أفظاظ لا يعرفون إلا لغة الضرب والشتم والتعذيب وذلك أمد الحياة!!
وكان مبعث ذلك لدى الأوربيين آنذاك هو الاعتقاد السائد بأن هذا المريض قد لعنته السماء عقابًا له على إثم ارتكبه, فأنزلت به هذا المرض. أو أن شيطانًا ماكرًا ضاقت به الدنيا فحل في جسم هذا المريض! وعلى ذلك فإنه يحل تعذيب ذلك الجسد لأنه بمنزلة منزل لشيطان رجيم! أي فهم خاطئ للدين المسيحي كان هذا?! وقد ظلت أوربا على هذه الحال إلى قبيل القرن التاسع عشر, عندما قام طبيب فرنسي يدعى بينل بمطالبة مجلس الأديرة بتحرير المجانين السجناء, وتسليمهم لعناية ورعاية الأطباء.

البيمارستان العربي

كان هذا في الوقت الذي خصص فيه العرب البيمارستانات الخاصة بهذا المريض والتي كان يعامل فيها معاملة كريمة تليق به كإنسان. ومن الأمثلة على ذلك البيمارستان العضدي في بغداد الذي شغل الرازي منصب ساعور (رئيس) له كان به قسم خاص لهؤلاء المرضى, وقد تولى الرازي بنفسه مراقبتهم والإشراف على علاجهم.
تلك كانت أمثلة عن بعض إسهامات الرازي في هذا المجال. وهناك أطباء كثيرون غير الرازي كل أدلى بدلوه في هذا الميدان مثل جبرائيل بن بختشوع, وعلي بن رضوان المصري, وأبو القاسم الزهراوي, ورشيد الدين أبو حليقة, وسكرة الحلبي, والشيخ الرئيس ابن سينا.. وغيرهم.
ووصل إلينا عن جبرائيل بن بختشتوع - كمثال - هذه الحالة التي سجلها ابن أبي أصيبعة (العيون 188) حيث ذكر أنه كان لهارون الرشيد جارية رفعت يدها فبقيت هكذا لا يمكنها ردها. والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان, ولا ينفع ذلك شيئًا, فاستدعى جبرائيل بن بختشيوع, فقال له الرشيد: أي شيء تعرف عن الطب? فقال: أبرد الحار, وأسخن البارد, وأرطب اليابس, وأيبس الرطب الخارج عن الطب. فضحك الخليفة وقال: هذا غاية ما يحتاج إليه في صناعة الطب, ثم شرح له حال الصبية, فقال له جبرائيل: إن لم يسخط عليّ أمير المؤمنين فلها عندي حيلة, فقال له: وما هي? قال: تخرج الجارية إلى هنا بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده, وتمهل علي ولا تعجل بالسخط, فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت.
وحين رآها جبرائيل عاد إليها ونكس رأسه ومسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها, فانزعجت الجارية, ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها, وبسطت يدها إلى أسفل ومسكت ذيلها. فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين, فقال الرشيد للجارية: ابسطي يدك يمنة ويسرة, ففعلت ذلك, وعجب الرشيد وكل من كان بين يديه.
يُفسر علم النفس الحديث حالة هذه الفتاة على أنها حالة (فصام) من نوع يسمى (الفصام التشنجي) أو (الفصام التصلبي) الذي يتميز سلوك صاحبه بالتيبس النفسي والجسمي حيث يجلس المريض ساعات طويلة جامدا لا يتحرك وإذا رفع يده أو ذراعه فإنه يبقيه لمدة طويلة كما لو كان منفصلاً عن جسمه لذا تعتبر هذه الحالة أحد الاضطرابات الحركية ذات الأعراض التكوينية والنفسية, وربما تنتج عن الاستثارة المستمرة الداخلية منطقة غير محددة بالمخ حيث يزداد نشاط (الجاما أمينو بيوتريك أسيد(.

الشيخ الرئيس وعلوم النفس

أما الشيخ الرئيس ابن سينا فقد عني بعلم النفس عناية كبيرة, حيث ألم بمسائله المختلفة إلمامًا واسعًا, واستقصى مشاكله وتعمق في أكثرها تعمقًا ملحوظًا. فيعتبر ابن سينا أول الفلاسفة القدماء الذين ربطوا وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطها الفسيولوجية, كما أن له فضلاً كبيرًا في توضيح أوجه الشبه بين إدراك الحيوان وإدراك الإنسان. وإذا كان أرسطو قد سبقه إلى تصور النفس الحيوانية, فإن أحدا لم يسبق ابن سينا في إلقاء الضوء الساطع على علم النفس الإنساني التجريبي. ولعل أبرز ما يميز علم النفس السينوي ويجعله عصريًا إلى حد كبير, معالجته لمفهوم الوعي بالذات أو (الشعور بالذات) ذلك المفهوم الذي لم يسبقه أحد إليه.
ويتلاءم مذهب ابن سينا مع النظرية السيكولوجية الحديثة الخاصة بالشعور وأقسامه, والتي يقبلها جمهرة المحدثين, حيث تجعل من الشعور قوة عاملة توحد الذات, وتجمع أطراف الشخصية, فيحس المرء أنه هو في الماضي والحاضر والمستقبل. فيذهب ابن سينا إلى أن الشعور بالذات يصدر عن النفس بأسرها كوحدة متميزة عن البدن. وهذا الشعور بالذات يختلف تمامًا عن أي إدراك آخر, فالإدراك العادي قد يحدث ولا يحدث, أما الشعور بالذات فموجود دائمًا إلا أن صاحبه قد يكون واعيًا به.
ومن إضافات ابن سينا الأصيلة في مجال علم النفس باعتراف عالم النفس الأمريكي هليجارد أنه قد تعرف على ما يعرف اليوم باسم الأمراض الوظيفية في مقابل الأمراض العضوية. والأمراض الوظيفية هي أمراض نفسية الأسباب والنشأة, وتصيب وظيفة العضو وليس العضو ذاته كالتفكير بالنسبة للدماغ. ومنها الأزمات والكوارث والصدمات النفسية وخبرات الفشل والإحباط والحرمان والقسوة والخضوع لحالات من الضغط النفسي والاجتماعي.

وينصح ابن سينا بالتزاوج بين العقاقير والوسائل النفسية في معالجة الأمراض النفسية, إذ يقول (يجب مراعاة أحوال النفس من الغضب والغم والفرح واللذة وغير ذلك, فإن الأغذية الحارة مع الغضب مضرة, وكذلك البارد مع الخوف الشديد, أو اللذة المفرطة مضرة) (كتاب تدارك الأخطاء) هذا النص يشير إلى أن ابن سينا أدرك - متأثرًا بالرازي في قوله: فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس - أن صحة البدن تابعة لاعتدال المزاج.

ومن الجدير بالاعتبار أن واحدًا من أكبر علماء النفس الأمريكيين المعاصرين, هو جيمس كولمان يضمن كتابه (Abnormal Psychology and Modern Life) حالة مرضية نفسية عالجها ابن سينا بطريقة مبتكرة أفادت علم النفس الحديث. يقول كولمان: أصيب أحد الأمراء بالمالنخوليا, وظهرت من أعراضها عليه أن تخيل نفسه (بقرة) يجب أن تذبح ويتغذى الناس من لحمها اللذيذ. وكان هذا المريض يخرج صوتًا كصوت البقرة (الخوار), ويصيح: اذبحوني.. اذبحوني, ولذا امتنع عن الطعام, الأمر الذي أدى إلى ضعفه وهزاله. ولما تم إقناع ابن سينا بعلاج هذا الأمير, بدأ علاجه بأن أرسل إليه رسالة يبلغه فيها بأنه ينبغي أن يكون في حالة نفسية جيدة, حيث سيقدم الجزار قريبًا لذبحه, ففرح المريض بهذه الرسالة, وهيأ نفسه - نفسيًا - للذبح. وبعد فترة دخل عليه ابن سينا غرفته شاهرًا سكينًا كبيرًا, وقال: (أين هذه البقرة التي سوف أذبحها) فأجابه المريض بإصدار خوار البقرة كي يعرفه, فأمر ابن سينا بأن يطرح أرضًا, وتقيد يداه ورجلاه, وبعد إتمام هذا الأمر, تحسس ابن سينا كل جسمه, ثم قال: إنها بقرة نحيفة جدًا لا تصلح للذبح الآن, يجب أن تتغذى وتسمن أولاً, ثم أمرهم بإطعام المريض بأطعمة جيدة ومناسبة, فاكتسب المريض حيوية وقوة, الأمر الذي جعله يتحرر مما اعتراه من أعراض وهذاءات, وتم له الشفاء التام.
تكشف معالجة هذه الحالة عن أن ابن سينا قد شخصها تشخيصًا سليمًا بأنها حالة مالنخوليا بأعراضها المعروفة. كما أدرك معنى مصطلح الهذاء أو الضلالة أحد الأعراض المميزة للذهان العقلي أو المرض العقلي المرادف للجنون. والمنهج الذي استخدمه ابن سينا في علاج هذه الحالة ومثيلتها هو المنهج نفسه المتبع في العلاج النفسي الحديث, وبذلك يكون لابن سينا السبق في هذا المجال.

أوحد الزمان

ومن نوادر الطبيب أوحد الزمان البلدي, أن مريضًا ببغداد كان يعتقد أن على رأسه دنا, وأنه لا يفارقه أبدا. فكان كلما مشى يتحايد المواضع التي أسقفها قصيرة ويمشي برفق ولا يترك أحدا يدنو منه, حتى لا يميل الدن أو يقع على رأسه. وبقي بهذا المرض وهو في شدة منه.
وعالجه جماعة من الأطباء ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به. وانتهى أمره إلى أوحد الزمان ففكر أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به إلا الأمور الوهمية, فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به, ثم أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل إليه وشرع في الكلام معه, وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما, أن يسرع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه كأنه يريد الدن الذي يزعم أنه على رأسه, وأوصى غلامًا آخر, وكان قد أعد معه دنا في أعلى السطح, أنه إذا رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب المالنخوليا أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. ولما كان أوحد الزمان في داره, وأتاه المريض شرع في الكلام معه وحادثه, وأنكر عليه حمله للدن, وأشار إلى الغلام الذي عنده من غير علم المريض فأقبل إليه, وقال والله لا بد لي أن أكسر الدن وأريحك منه. ثم أدار تلك الخشبة التي معه وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع, وعند ذلك رمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح, فكانت له جلبة عظيمة, وتكسر قطعًا كثيرة, فلما عاين المريض ما فعل به, رأى الدن المنكسر, تأوه لكسرهم إياه, ولم يشك أنه الذي كان على رأسه بزعمه, وأثر فيه الوهم أثرًا برئ به من علته تلك.
في علم النفس الحديث تُفسر حالة مريض بغداد هذه على أنها حالة أعراض هلاوس (Halluacination) (يلاحظ هنا تأثر المصطلح الإنجليزي للهلاوس بالتسمية العربية ومن هذا القبيل أيضًا Hysteria هستريا. Hysteric هيستري. Malancholia مالنخوليا) وهي من الأعراض الشائعة لدى الذهانيين والنادرة بين العصابيين. وتعرف الهلاوس على أنها مدركات حسية خاطئة لأنها لا تنشأ عن موضوعات واقعية في العالم الخارجي بل عن وضوح الخيالات والصور الذهنية ونصوعها نصوعًا شديدًا بحيث يستجيب لها المريض كوقائع بالفعل وقد تكون هذه الهلاوس بصرية سمعية أو ذوقية أو حتى شمية. وهي في حالتنا هذه, هلاوس بصرية.

وقد استخدم (أوحد الزمان) في علاجه لهذه الحالة ما يعرف بالعلاج بالإيحاء وهي طريقة لعلاج أعراض المرض تساعد على تحرير المريض من اعتقاده الفاسد.
واشتهر أيضا من أطباء العرب في الطب النفسي ومعالجته, الطبيب سكرة الحلبي, نسبة إلى مدينة حلب بسورية, كانت له دربة في العلاج, وتصرف في المداواة. ومن أمثلة معالجاته النفسية ما يلي:
(كان للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي حظية في قلعة حلب, يميل إليها كثيرا, ومرضت مرضا صعبا. وتوجه الملك العادل إلى دمشق وبقي قلبه عندها, وكل وقت يسأل عنها فتطاول مرضها, وكان يعالجها جماعة من أفاضل الأطباء, وأحضر إليها الحكيم سكرة فوجدها قليلة الأكل متغيرة المزاج, لم تزل جانبها إلى الأرض, فتردد إليها مع الجماعة, ثم استأذن الخادم في الحضور إليها وحده فأذنت له, فقال لها: يا سيدتي أنا أعالجك بعلاج تبرئين به في أسرع وقت إن شاء الله تعالى, وما تحتاجين معه إلى شيء آخر, فقالت افعل. فقال: اشتهي أن مهما أسألك عنه تخبريني به ولا تخفيني. فقالت: نعم. وأخذ منها إذنًا فقال: عرفيني ما جنسك? فقالت: علانية (قبيلة فارسية كانت تدين بالنصرانية), فقال: العلان في بلادهم نصارى, فعرفيني ماذا كان أكثر أكلك في بلدك? فقالت: لحم البقر. فقال: يا سيدتي, وما كنت تشربين من النبيذ الذي عندهم, فقالت: كذا كان. فقال: أبشري بالعافية. وراح إلى بيته واشترى عجلاً وذبحه وطبخ منه, وجلب معه في زبدية منه قطع لحم مسلوق, وقد جعلها في لبن وثوم, وفوقها رغيف خبز فأحضره بين يديها وقال: كلي, فمالت نفسها إليه, وصارت تجعل اللحم في اللبن والثوم وتأكل حتى شبعت. ثم بعد ذلك أخرج من كمه برنية صغيرة, وقال: يا ستي هذا شراب ينفعك فتناوليه فشربته, وطلبت النوم, وغطيت بفرجية فرو سنجاب, فعرقت عرقًا كثيرًا وأصبحت في عافية. وصار يأتي لها من ذلك الغذاء والشراب يومين آخرين, فتكاملت عافيتها فأنعمت عليه) .
في ضوء علم النفس الحديث نجد أن (سكرة الحلبي) في علاجه لمحظية (نور الدين محمود) قد استخدم نظرية الذات التي قال بها كارل روجرز وتسمى أيضًا بنظرية العلاج المعقود على المريض حيث أجرى مقابلته مع المريضة في جو طليق سمح ولم يقدم لها تشخيصا أو حلاً للمشكلة وإنما أدلى لها بنصيحة وأصغى إلى إجابتها عن أسئلته. وهذه الطريقة تختلف عن التحليل النفسي في أنه ليس من الضروري أن يفهم المريض أصل المشكلة في الطفولة فكل ما يفعله المعالج إطلاق الحرية للمريض وتهيئة الجو للتعبير عن متاعبه. وهذ الطريقة لا تحتاج إلى عدد كبير من الجلسات وتستخدم في الحالات التي لا تحتاج إلى بحث عميق في الماضي والتي لا ترتبط بطفولة المريض أو حياته البعيدة. وتجدر الإشارة إلى أن تغيير النمط الغذائي قد لعب دورًا في تحسن حالة الفتاة حيث تعافت بعد رجوعها إلى النمط الغذائي الذي اعتادته في بيئتها الأولى, ومن المعروف أن هناك علاقة وطيدة بين (الذوق والسرور حيث إن الفرد قد يتعرض عند تغيير غذائه لما يعرف بمقت الطعام, وربما يستتبع ذلك فقدان الشهية وعدم السرور) .

الجسم والنفس

ولقد أدرك الطب العربي آثار الحالة النفسية للإنسان, في وظائف أجهزة الجسم المختلفة, فالحالة النفسية في الانقباض والفرح والهم والغم والخجل, تؤثر تأثيرًا مباشرًا في سلوك الإنسان, وقد تؤدي إلى الجنون وفقدان العقل, والأمراض النفسية الشديدة التي يحتاج علاجها إلى بحث دقيق وعميق, وهذا ما فعله الأطباء العرب المسلمون وطبقوه في أقسام الأمراض العقلية في البيمارستانات, حيث فطن العرب والمسلمون إلى ضرورة تخصيص أماكن خاصة لمعالجة أصحاب الأمراض العقلية, فكان يخصص لهم قسم في كل بيمارستان, يتلقى فيه المريض عناية خاصة من أطباء حاذقين ومهرة في فنون العلاج النفسي.
وقد بلغ الاهتمام بهؤلاء المرضى درجة كبيرة حتى كانت أقسامهم في بيمارستانات بغداد ودمشق, والقاهرة, وقرطبة تفرش بفرش من القطن في ردهات يتوافر فيها الهدوء والهواء الطلق والنور, وعليهم مشرفون يتعهدونهم بالأشربة المسكنة والمرطبة, ويغذونهم بمرق الدجاج وأنواع الألبان, بينما الموسيقى تصدح خلفهم بألحان شجية, وفي بعض البيمارستانات مثل بيمارستان حلب خص المريض بخادمين ينزعان عنه ثيابه كل صباح, ويحممانه بالماء البارد, ويلبسانه أنظف الثياب, ويحملانه على أداء الصلاة, ويسمعانه قراءة القرآن ألا بذكر الله تطمئن القلوب , ويخرجان به إلى الهواء الطلق.

إضافة رد
 

مواقع النشر (المفضلة)


صفحات مشرقة من التاريخ العربي: أصالة الطب النفسي


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »


الانتقال السريع


الساعة الآن 18:19
المواضيع و التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات سوفت الفضائية
ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ( ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر )
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2023, vBulletin Solutions, Inc