قديم 2016-10-06, 14:26
رقم المشاركة : 1  
الصورة الرمزية iyad05
iyad05
:: سوفت ماسي ::
افتراضي الإسلام والمسيحية في الأندلس

الإسلام والمسيحية في الأندلس



إن الهدف الذي نرمي إليه من هذا العمل هو تسليط الضوء على التداخلات المتبادلة بين الإسلام والمسيحية في شبه جزيرة إيبريا، تداخلات حقيقية متواصلة، داخل إسبانيا الإسلامية وخارج حدودها، على امتداد العصر الوسيط، وأن نظهر كذلك أن الأندلس لم تكن تحمل السلاح دوما في وجه جيرانها، حتى في اللحظة التي بلغت فيها من القوة حدا لا يقهر، وإنما كانت هناك فترات من هدنة حقيقية، قد تمتد أعواما طويلة، أعطت الأندلس خلالها بسخاء أكثر مما تلقت، وبرهنت دائما على روحها المتسامحة فيما يتصل برعاية المسيحيين، وهو ما لا يحلم أحد بإنكاره اليوم أو الشك فيه.
وما من مكان في العالم الإسلامي، دون ريب، كانت العلاقات فيه بين الإسلام والمسيحية ضرورة كما كانت في إسبانيا العربية، لقد حافظ الجانب الأكبر من شعبها، في القرن الأول من الفتح على الأقل، على الدين الرسمي القديم لدولة القوط، وفيما بعد، حتى بعد أن دخل الإسبان المسيحيون في الإسلام أفواجا ليتمتعوا بنظام مالي أفضل، فإن جانبا لا بأس به من الرعايا المسيحيين ظلوا يشكلون في المدن الأندلسية جاليات مزدهرة، لها كنائسها وأديرتها، ورئيسها المسئول عنها، وعن ضرائبها، وقاضيها الذي يطبق في أحكامه القانون القوطي القديم، تحت إشراف الدولة الأموية.

أما الملاحقات النادرة التي عانت منها تلك الجاليات فمردها دائما مسيحيون متهوِّسون يرفضون أن يتراجعوا في تهجمهم على دين أصحاب الدولة. والحق أن أبناء جلدتهم، من القس أو العلمانيين، كانوا ينكرون هذه التهجمات علناً.
كان الأمير، أو الخليفة فيما بعد، يقر دائما، تقريبا، ما تنتهي إليه الانتخابات التي تجرى لاختيار كبار رجال الدين، وبخاصة مطران طليطلة وأسقف قرطبة، ويستخدم هؤلاء الأحبار أنفسهم، إذا دعت المناسبة، في السفارات والمهمات السياسية السرية، ولم يكن من النادر في شيء أيضاً أن تجد بين رجال الدين المسيحيين الإسبان من أجاد اللغة العربية وتضلع فيها، وحذق في آدابها؛ مما يتيح لنا أن نفترض وجود صلات وثيقة ومتصلة، بين مختلف عناصر السكان، وفيما يتصل بهذا الجانب نملك شهادة معاصرة لا يمكن الشك في قيمتها؛ لأنها صدرت عن واحد من أبرز أبطال مناهضة الإسلام نشاطا في شبه جزيرة إيبريا خلال القرن التاسع الميلادي وهو “ألبارو القرطبي”، فهو يحزن لعدم اهتمام المسيحيين في إسبانيا بلغتهم، وجهلهم باللغة اللاتينية، ويمجد في بلاغة رائعة الثقافة الأندلسية، ولما تزل في دور التكوين، عندما يصيح في فقرة ما أكثر ما نستشهد بها: “إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم، ويدرسون مذاهب الفقهاء والفلاسفة المسلمين في عمق، لا ليردوا عليها وينقضوها، وإنما ليكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلا صحيحا، وأين تجد الآن واحداً، من غير رجال الدين، يقرأ الشروح اللاتينية التي كُتبتْ على الأناجيل المقدسة. ومن سوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين وآثار الأنبياء الرسل. يا للحسرة! … إن كل الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها، ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالا طائلة في جمع كتبها، ويصرحون في كل مكان بأن هذه الآداب خليقة بالإعجاب، فإذا حدثتهم عن كتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم، يا للألم! … لقد نسي النصارى حتى لغتهم، فلا تكاد تجد واحدا منهم بين الألف يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابا سليما من الخطأ. فأما عن الكتابة في اللغة العربية فإنك واجد فيهم عدداً عظيما يجيدونها في أسلوب منمق، بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم فناً وجمالاً”.

لم تكن الهوة بين الإسلام والمسيحية، خلال العصور الأولى تلك، واسعة ولا عميقة، كما كان يطيب لنا أن نتصورها وأن نؤكدها حتى زمن ليس ببعيد، وحتى الخلاف في العقيدة لم يقف حائلا دون قيام علاقات زوجية، ولدينا على هذا أمثلة عديدة، حتى في عصر الفتح نفسه، فقد تزوجت “أَيْلُة” Egilon أرملة “لذريق” Rodrigo آخر ملوك القوط، وتكنيها المصادر الإسلامية بأم عاصم، من “عبد العزيز” ابن القائد “موسى بن نصير” وتزوجت Lampegia ابنة Eudes، دوق أقيطانية، من “منوسة” حاكم منطقة جبال البرانس المسلم، ولدينا شواهد عديدة وفي كل العصور، على الزواج المختلط بين شخصيات تنتمي إلى الطبقة الخاصة، أو يجري في عروقها الدم الملكي، فالخليفة العظيم “عبد الرحمن الناصر” حفيد أميرة مسيحية من الباسك اسمها “إنييجة” Iniga، وتطلق عليها المصادر الإسلامية اسم “درّ”، وتزوج “المنصور بن أبي عامر”، الحاجب الشهير، من إحدى بنات “شانجة الثاني” Sancho، ملك نبرة، ودخلت التاريخ الأندلسي تحت اسم “عبدة” وتركها “المنصور” تعطي ابنها “عبد الرحمن” لقبا رومانثيا مألوفا لها، فكانت تناديه “شنجول Sanchuelo”، وهو تصغير لفظ شانجة.
ومن جانب آخر، ما أكثر ما حظيت قرطبة، في القرن العاشر الميلادي، بمشهد السفارات القادمة من ممالك الشمال، وكان الأمير أو الخليفة، يزدهي ما وسعه احتفاء بمقدمها، فيلقاها في أبهى حلله، ويخرج إليها في أروع مواكبه، ويحكم لقاءها مراسم دقيقة، ولو أن مثل هذه اللقاءات لا يمكن أن تقارن بالأبهة التي كان الخليفة يظهرها احتفاء بالسفارات التي تأتيه حتى عاصمة ملكه، موفدة من قبل إمبراطور القسطنطينية.
وقد ظلت قرطبة وبيزنطة تتبادلان العديد من السفارات الدبلوماسية، على امتداد القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، ووجود مثل هذه العلاقات دليل بنفسه على المكانة العالية التي كانت تتمتع بها الإمبراطورية الأموية في نظر أوروبا المسيحية، في الشرق والغرب على السواء. وقد أصبح تبادل السفراء بين قرطبة وبيزنطة في عهد “عبد الرحمن الناصر”، وابنه “الحكم المستنصر”، أمراً معتاداً، ونعرف أن الأخير منهما طلب من “نيسيفور فكاس” أن يرسل إليه خبيراً في صنع الفسيفساء لاستخدامه في تزيين السعة التي كان يزمع القيام بها في مسجد قرطبة الجامع، وكان هذا، وهو منطقي تاريخاً، مصدر التأثير الذي مارسه الفنانون البيزنطيون على فن الزخرفة، في بعض مباني العاصمة الأموية في الأندلس.

يحدث أحياناً أن تظهر بغتة سحابة سوداء تعكر صفو السماء الأندلسية لفترة ما، في مناسبات مختلفة، وفي قمة عصور السلام الداخلى، ومهما يبدو قليلاً واهنا ما أحدثه النورمانديون من تأثير في حضارة الغرب العربي، في هجوماتهم المستمرة على سواحل شبه الجزيرة، ومهما كانت متباعدة، فإننا لا نستطيع الصمت بسهولة عن ذكريات تلك الغارات الإسكندنافية المفاجئة رغم أنها لم تبلغ في أية لحظة حد المأساة كاملة، ولكنها جعلت إسبانيا الإسلامية على أهبة الاستعداد دائماً، على نحو ما حدث ذلك تماماً مع الخطر الفاطمي، وكلا الأمرين أرغمها على أن يكون لديها أسطول بحري قوي، وبحَّارة مهرة، وبناء قلاع دفاع قوية وصامدة على امتداد شواطئها.
ومن الأمور المتفق عليها أن غارات هؤلاء الفيكنج، أو المجوس كما يسميهم المسلمون، لم تترك وراءها أي أثر في البلاد، ولكن هذا التأكيد يحمل طابع العجلة، إذ لم نبرهن عليه بصورة قاطعة، وطبقاً للإشارات الواردة في بعض النصوص العربية، فإن النورمان لم يعودوا جميعاً إلى البحر ثانية، وإنما تخلّفت منهم جماعات صغيرة، استقرت في بعض أنحاء شبه الجزيرة، وبخاصة فيما حول إشبيلية، بموافقة سادة المملكة الأموية، وغني عن البيان أن مرور أجيال منهم كاف ليصهرهم في بوثقة الأندلس وثقافتها.
إن تأثيرات إسبانيا المسيحية على إسبانيا العربية، لا يمكن أن تقارن، ولو من بعيد، بتأثيرات إسبانيا العربية في إسبانيا المسيحية، حتى ولو أخذنا في الاعتبار الإضافات المتفرقة في عالم الفن، أو المتصلة ببيزنطة النائية، والتي تمكن الأندلس من بسطها طوال تلك العصور ذاتها على ممالك الشمال الإسبانية، وعلى نحو أقل، وبطريقة أدنى، على جنوب فرنسا.

لقد كان الإشعاع الذي تمارسه قرطبة يومها على المسيحية حقيقة لا يماري فيها، وهو يبرر من جهة أخرى، لماذا كان العطاء من جانب واحد طبيعياً، ولم تكن ثمة مبادلات بين الجانبين، ومنذ ذلك العصر أخذ هذا الإشعاع في تأكيد ذاته، على نحو ما تؤكده لنا بعض الوثائق، ولو أنها لسوء الحظ قليلة جداً، فنحن نعرف أن الشاعرة السكسونية “روزيتا” Hroswthea نظمت أبياتاً من الشعر في منتصف القرن العاشر الميلادي، وهي في ديرها منعزلة بألمانيا، تصف عاصمة الأمويين الأندلسيين بأنها: “جوهرة العالم الساطعة، مدينة جديدة ورائعة، فخورة بقوتها، شهيرة بمباهجها، مزهوة بما تملك من خير وفير”، وأن “أوتون” Oton الأول إمبراطور جرمانيا أرسل “جان جورز” سفيراً إلى “عبد الرحمن الناصر” عام 956 م، وينقل إلينا مترجم حياة هذا السفير أن الدهشة غمرته عندما وجد نفسه وسط أضواء الحضارة القرطبية؛ رغم أنه كان يعرف عنها قبل أنها رقيقة ومصقولة.
وعندما نبحث عن طبيعة هذه المؤثرات ندرك أنه لا يجب أن نغفل فيما يتصل بالجانب الاقتصادي والاجتماعي لإسبانيا الإسلامية بعض الأشياء التي تخلفت من عصر القوط، وصمدت خلال الدولة الإسلامية، فلم يكن العرب بالتأكيد هم أول من أقام نظام الإقطاع في الأندلس، وكان قاعدة الاسترقاق الزراعي، وبالتالي أساس نظام الرق في العصور الرومانية، ولم يزد العرب على أنهم رسخوا هذا النظام على نحو ما كان في أيام ملوك طليطلة من القوط.
وقد استطاع كبار الملاك الذين ينحدرون من أصول نبيلة أن يحتفظوا بتلك الأملاك الواسعة عن طريق المصاهرة مع الأسر العربية، وأتاحوا لسادة الأندلس الجدد أن يفيدوا من هذا النظام عن طريق الاستغلال، وعلى الرغم مما في هذا من قسوة إنسانية تقترب بالفلاح الذي وُلد حراً من حالة العبودية، فقد سبق له أن أظهر مزاياه لزمن طويل.

لقد انصرف عرب شبه جزيرة إيبريا، في المقام الأول، إلى الحفاظ على التقاليد الأموية سالمة في موطهنم الجديد، وبعدها أخذوا مما جدد العباسيون في نطاق الحياة، ودون أدنى شك تخيروا قليلاً مما وجدوا من حضارة الذين سبقوهم مباشرة على نحو ما وجدوها لحظة افتتاح الأندلس، وإذا تركنا جانباً بعض الإشارات العابرة في التنسيق المعماري للمباني القديمة، فليس لدينا في كل الحالات ما يبرهن على ذلك، ومن الواضح أن ثقافة المستعربين أصبحت الوارث الوحيد للتراث القوطي، ومع ذلك فحين تتميز عن الثقافة الإسلامية تصبح في أعلى درجاتها فقرا وركاكة.
وثمة تأثير آخر من السهل تحديد مجاله، ولكن لا يجب إهماله عندَ الحديث عن إسبانيا الإسلامية، في هذه الفترة، وهو الأثر الذي استطاعت أن تحدثه فيها، خلال فترة طويلة، الإضافات المتوالية التي حملها معهم صقالبة أوروبا، ومن الضروري أن نمتد بمدلول هذا اللفظ لكي يعني ما نفهم من كلمة رقيق بالفرنسية Esclave، ويطلق لفظ الصقالبة على الرقيق من الأوروبيين الذين كان يشتريهم المسلمون في إسبانيا، ليزيدوا بهم جيوشهم عددا وقوة، وفي بعض الحالات ليكونوا خدما وقهرمانات داخل القصور، وبلغوا في القرن الحادي عشر الميلادي بخاصة عدداً هائلاً، فكان منهم في قرطبة وحدها، خمسة عشر ألفاً أو يزيدون، وكان يؤتى بهم من بلاد أوروبا الوسطى والجنوبية، ومن شواطئ البحر الأسود، ومن كلابر ولومبارديا، وغيرها، وكان من بينهم أيضاً من تعود أصولهم إلى شمال شبه الجزيرة.

وكثيرون من هؤلاء الصقالبة أعتقوا وأصبحوا أحراراً، وبالذات أولئك الذين كانوا يعملون في قصر الخلافة، وبعد عتقهم ظلوا يواصلون العمل بين خاصة خدم الخليفة، ويحملون لقب “موالي”. وما لبثوا أن بلغوا شأنا عاليا، ومكانة ممتازة، في نطاق الإمبراطورية القرطبية، وسرعان ما أصبحوا طبقة حقيقية، ذات امتيازات ملحوظة. وفيما بعد، عندما تهاوت الخلافة، كوّنوا حزبا معارضا، يناهض الجماعة العربية الأندلسية، والحزب البربري معا. وقد تمكنوا بعد ذلك من تكوين إمارات صغيرة مستقلة، على امتداد الساحل الشرقي لشبه الجزيرة، في دانية، وبلنسية، وطرطوشة.
وقد اعتنق هؤلاء الصقالبة جميعا الإسلام في سرعة فائقة، ونملك على ذلك شواهد لا يمكن إنكارها، وكانوا يُحملون إلى إسبانيا صغاراً، لذا تعلموا لغات الأندلس واتخذوا الطابع الأندلسي كاملا، و فقدوا كل اتصال مع بلادهم الأولى.
إضافة رد
 

مواقع النشر (المفضلة)


الإسلام والمسيحية في الأندلس


« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

أدوات الموضوع

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:59
المواضيع و التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات سوفت الفضائية
ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك ( ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر )
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2023, vBulletin Solutions, Inc